مفهوم التقدم :
قال في اللسان : قَدَم – بالفتح – يقدم قدوماً أي تقدم ؛ ومنه قوله تعالى :
" يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ", أي يتقدمهم إلى النار, ومصدره القدم . يقال: قَدَم يقدم, و تقدم يتقدم, وأقدم يُقدم, بمعنى واحد ، والقدم :السابقة وما تقدموا فيه غيرهم , والقدم : كل ما قدمت من خير ، والتقدم يقابله أو يضاده التأخر . قال تعالى :
" لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " . فالتقدم : هو فعل الأمر الحسن , والتأخر : هو فعل الأمر السيئ والذي لا ينفع صاحبه ، ولا ينفع المجتمع لا في حاله ولا في مآله ، وبهذا يتضح أن الفعل والعمل إذا لم يكن حسنا في ذاته نافعا لغيره لا يسمى تقدما .
والمستقر في أذهان كثير من الناس هو الربط بين الجديد ومفهوم التقدم, فكل جديد هو تقدم عندهم والإيحاء لهذا أن كل قديم هو تخلف , ولهذا يسارع الناس إلى المحدثات والصرعات والموضات على اعتبار أنها تقدم, وفاعلها يوصف بأنه متقدم ومتحضر, لأن بين مفهوم التقدم والحضارة ارتباط حيث إن الحضارة الحقة تنتج عالماً متقدماً يعمل الحسن ويترك السيئ .
وعلى هذا الفهم الملتبس بين مفهوم التقدم والحضارة جرى تقسيم العالم إلى دول متقدمة, وهي الدول ذات التنظيم والتمدن والتقنية العالية والقوة الاقتصادية والعمران الشاهق والدخول المرتفعة بصرف النظر عن السلوك الأخلاقي والسعادة النفسية والأمن المجتمعي .
ودول متخلفة, وقد تسمى - مجاملة - نامية وهي الدول الفقيرة ذات الدخول القليلة, والتخلف العمراني والتقني. ويدخل تحت هذا الاسم أغلب دول العالم الإسلامي .
ولاشك أن الفقر والتخلف التقني وضعف التنظيم الإداري والعمراني كلها مظاهر غير مرغوبة ، ويجب على الأمة السعي لامتلاك عناصر القوة وإسعاد المجتمع الإنساني .
والعالم المعاصر اليوم يعيش بين تخلفين ؛ فما يوصف بالعالم المتقدم ماديا ومدنيا يعيش تخلفاً روحياً وضعفاً أخلاقياً وضغوطاً نفسية أودت بمكونات الإنسان الأساسية إلى الهلاك والدمار .
ولهذا تنبأ كثير من فلاسفة الغرب سقوط حضارتهم ؛ لأنها اهتمت بالجانب المادي وجانب اللذة والشهوة الجسدية على حساب الروح والأخلاق والقيم .
فقد ألف العالم الأمريكي الكسيس كارليل كتابه الشهير : ( الإنسان ذلك المجهول ) , لينادي على العالم المعاصر بأنه يجهل ذات الإنسان الذي تصنع الحضارة من أجله , ولهذا فكثير من عمله وإنتاجه غير مناسب له، بل هو مدمر لخصائصه .
كما أطلق العالم الألماني ( ألبرت اشفيتسر ) نداءً آخر من خلال كتابه : ( انحلال الحضارة وإعادة بنائها )وقد عرّف الحضارة بقوله : الحضارة - بكل بساطه -عناها بذل المجهود بوصفنا كائنات إنسانية , من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي , وهذا الموقف يتضمن استعداداً مزدوجاً , فيجب :
أولاً : أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة .
ثانياً : أن نكون أخلاقيين .
فهو يركز على أن الإيجابية والأخلاق هي التي تبني الحضارة الصالحة المناسبة لكيان الإنسان وخصائصه ، ويزيد هذا المعنى إيضاحاً بقوله: هناك حقيقتان هما:
1- أن طابع الحضارة أخلاقياً في أساسه, وهذا ما تفقده المدنية الغربية المعاصرة.
2- وأن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الحضارة وبين نظريتنا في الكون .
ويقول كولن ويلسون : لا تستطيع الحضارة أن تستمر في وضعيتها العمياء الحاضرة منتجة ثلاجات أفضل وشاشات أوسع للسينما مجردة البشر باستمرار من كل معنى للحياة الروحية قلت: وفقدان المدنية الغربية المعاصرة للتوازن بين الحياة الروحية والأخلاقية وبين الحياة المادية صبغ مدنيتهم بالتخلف الخطير الذي يقضي على الحياة البشرية ، وإن كانت صورتها متقدمة مادياً.
والتخلف الثاني: هو تخلف ما يوصف بالدول النامية فإنها تركت مقومات حضارتها, واتجهت إلى المدنية الغربية, تقلدها وتجعلها مَثلَها الأعلى, و تتمنى أن تلحق بركبها وهي لا تملك المقومات التقنية والقدرات التنظيمية التي عند الغرب, فتركت قيمها ومقومات حضارتها أو خلطتها بالقيم الغربية, ثم لم تستطع المنافسة ولا القرب من المستوى المادي والتقني للنظم الغربية, فهي كالغراب الأعرج الذي حاول تقليد مشية الطاووس فلم يستطع وحاول العودة إلى قطيع الغربان فنسي طيرانهم .
ومصطلح التقدم لفظ مغري غير أنه يستخدم كثيراً في غير موضعه الصحيح ؛ حتى صار قريناً للتغيير والتبديل والتخلي عن الموروث العلمي والثقافي والاجتماعي، بل حتى النص الشرعي طاله شيء من الترك أو التحريف باسم التقدم والتطور والحضارة.
وهذه المصطلحات يجب ضبط دلالاتها، وتوضيح مقاصدها لعامة الناس، حتى لا تروج عندهم الدلالات البديلة والملتبسة ،التي يقصد بها تسويق الباطل تحت مسميات واصطلاحات غير مثيرة ، ولا ينتبه العامة لمقاصد مستخدميها، حتى إذا نُسِي الأصل ، ودُرِس العلم ، ثبتت الدلالات البديلة ، وسوقت علناً.