في مشرحة زينهم.. هنا يرقد ما تبقي من ضمير مصر !
عندما اتخذت قراري بالنزول إلى مسجد الإيمان، ثم مشرحة زينهم للمشاركة في تشيع جنازة شهداء مذبحة رابعة العدوية، ثم شهداء رمسيس، كان دافعي الأول هو توديع هؤلاء الشهداء الأبرار وتقديم واجب العزاء لأسرهم وذويهم، فقد رأيت أن هذا أقل ما يجب فعله بعد أن أعيانى ضميرى الذي وبخنى بشراسة؛ لأني لم أنضم للمعتصمين الشرفاء الذين أصبح كثير منهم شهداء أبرار أحياءً عند ربهم يرزقون بإذن الله، وكنت أذهب لهم فقط كل يومين أو ثلاثة؛ لأتابع صمودهم وأعاون زملاءنا الصحفيين والإعلاميين بصفتي صحفي، وددت فقط أن أشعر أني أفعل أي شيء؛ لأواسي أسر وأهاليهؤلاء الأبطال الأحياء عند ربهم بإذن الله. أمام مشرحة زينهم كان المشهد مهيباً، هنا تشعر أنه يرقد ما تبقى من ضمير مصر من دماء الشهداء التي تغطي الشارع، رائحة الموت تفوح على بعد أمتار من مقر المشرحة مئات الجثث ملقاه في الشوارع الجانبية لمقرالمشرحة بعد أن اكتظ الشارع الرئيسي لها بمئات الجثث التى يجاورالبعض منها أهلهم وذويهم، والبعض الآخر كتب على كفنه «مجهول» لايجد من يستلم جثته، فلازال أهالي وأسر من جاءوا من المحافظات والأقإلىم مستمرون في معاناة البحث عنهم ولم يصلوا بعد إلى «مشرحة زينهم»؛ حيث تتواجد جثامين أبنائهم وذويهم. على خطى بورما وغزة المشهد كان قاسياً ومهيباً إلى أبعد حد، وأقل ما يوصف به ما حدث هوأن هؤلاء ضحايا لعملية إبادة جماعية لفصيل سياسى كبير هم جماعة الإخوان المسلمين، والمتعاطفين معهم، ومعارضي الانقلاب العسكري عموماً، شاهدت آثار جريمة مكتملة الأركان، مجزرة بكل المقاييس، عقلي لم يستطع استيعاب ما حدث. تساءلت وأنا أقف أمام جثث مشوهة وأخرى متفحمة: هل استشهد هؤلاء في مذابح المسلمين في بورما؟ أم أنهم استشهدوا في غزة على يد الجيش الإسرائيلي؟ أم إنها مجزرة جديدة لجيش الأسد في محاولة لإبادة الثوار السوريين؟ لأفيق وأنا أحدث نفسي إنها مجزرة قام بها مصريون من جيش وشرطة مصر ضد إخوانهم المصريين؛ لأسباب سياسية وتعطش للسلطة. شاهدت نفس الصور الدموية اللاإنسانية التي حوكم بسببها مجرمون ضد الإنسانية ومجرمي حرب في أحداث شهدها التاريخ على مر العصور، كما سجل القمع العسكري في ميدان «تيانانمين» عندما قام الجيش الصيني بقتل آلاف المعتصمين السلميين دهساً بالدبابات في الميدان عام 1988م ولكني استفقت؛ لأجد أنني في مصر، وأن من قتلوا ومرت فوقهم المدرعات أوجرفت جثثهم المحترقة المتفحمة جرافات الجيش، هم من المصريين الذين خرجوا ليدافعوا عن مكاسب ثورة 25 يناير، فقيل: إنها أنتهت وهناك ثورة جديدة هي ثورة العسكر30 يونيو وشعارها الجديد هو «هنقتلك هنقتلك»؟ أشلاء محترقة في عربات لوري مساء السبت 18/8/2013م حضرت إلى مشرحة زينهم لواري أو سيارات كبيرة تحمل كميات كبيرة من الجثث معبئة في أشولة رائحتها عفنة جداً مشوهة المعالم محترقة ذائبة، تمت إذابتها بمواد حارقة جري جمعها بعد إخلاء رابعة العدوية والنهضة بالقوة الغاشمة، وظهرت لعمال النظافة في صورة أشلاء محترقة لامعالم لها، وبعضها مقطع إلى أجزاء بسبب تركه في الشوارع ثلاثة أيام حتي تحللت وتمزقت، وأصبحت قطعاً متناثرة، العمال جمعوها في أجولة ولم يجد الانقلابيون بداً من نقلها إلى المشرحة للتخلص منها بعد أن رفض العمال وضعها في القمامة. الثلج والبخور لحفظ الجثث بعد ثورة 25 يناير! اقتربت من بعض الأهالي الذين باتوا ليلتهم في انتظار تصاريح دفن أبنائهم وذويهم، الملقاة جثثهم في عرض الطريق أمام المشرحة؛ حيث قام أهاليالمنطقة بوضع كميات كبيرة من الثلج فوق الجثث تحدياً لحرارة الجو التى قد تسرع من تحلل جثث الشهداء فيما قام البعض الآخر بإطلاق كميات من البخور ورش ماء الورد على جثث الشهداء. اقتربت من سيدة تصرخ حاولت تهدئتها؛ لتروى لي أنها فقدت زوجها الذي كان يمر بالقرب من محيط ميدان رابعة العدوية وعندما رأى المئات غارقين في دمائهم، ولا توجد سيارات إسعاف فقام زوجها بمحاولة إنقاذ بعض الجرحى ونقلهم لأقرب مستشفي فأطلق علىه الرصاص واستشهد. قتل رجال الاسعاف قابلت أيضاً أسرة «مسعف» استشهد أيضاً في الأحداث، وروت لي أخته بعد أن عجزت زوجته وأمه عن الكلام، كيف أنه كان يحاول إسعاف المصابين ونقلهم إلى عربة الإسعاف حين أعادت قوات الأمن سيارات إسعاف التي أرسلت لإجلاء الجرحى، ثم قامت بإطلاق الرصاص علىها؛ ليصاب المسعف بطلق نارى في الجمجمة ويسقط شهيداً وسط بركة من الدماء بجوار من أراد أن يسعفه. وتذكرت ما حدث للناطق الرسمى باسم وزارة الصحة السابق د. يحيى موسى عندما خرج ليفضح مجزرة الحرس الجمهوري على التلفزيون الحكومي، ويقول: «أنا كنت شاهد عيان على ما حدث، وأقول شهادة لله وللتاريخ، إن ما حدث هو مجزرة متكاملة الأركان من قوات الشرطة العسكرية وقوات الشرطة والداخلية ضد المعتصمين السلميين الذين لم يكونوا يملكون أي شىء للدفاع عن أنفسهم، فتم قتلهم بدم بارد بعد خنقهم بقنابل الغاز، هذا ما شاهدته ورأيته بنفسى، وشاهده رجال الإسعاف وعشرات الآلاف من الموجودين هناك»، وبعدما قطعوا عنه الارسال، ثم فوجئنا بأنه أصيب بثلاثة رصاصات وعزلوه من منصبه وقالوا: إنه انتحل صفحة المتحدث باسم وزارة الصحة! فتاة أخرى وجدتها في حالة انهيار، وعندما اقتربت منها أخذت تصرخ، وتقول لي: صور انقل ما يحدث، انظر إلى جثث هؤلاء القتلى الذين قيل إنهم يحملون الأسلحة والكلاشنكوف، وأخذت تصرخ ابن خالي استشهد عمره 24 سنة وغداً كانت خطوبته وفزعت عندما قالت لي: إنهم لم يستطيعوا تسلم جثته على مدى يومين لإصرار الأطباء الشرعيين على كتابة إن سبب الوفاة إما الانتحار أو اختناق من الغاز في تقارير الوفاة، وتدعو على السيسى ووزير داخليتة الكاذب الذي خرج عشية فض الاعتصام ليقول أن هذه المجزرة الوحشية تمت بمنتهى السلمية وبأقل الخسائر، وعلمت لاحقاً أنهم يفعلون هذا مع جميع الشهداء وأخبرني أحدهم أن هدفهم هو تقليل عدد الشهداء كي لا يدرك الشعب حقيقة المجزرة وما يجري! جذبني أحد الأهالي من يدي؛ ليكشف لي أكفان عدد من جثث الشهداء؛ لأرى بعيني جماجم متهتكة، ووجوه متشوهه بفعل الرصاص الحي الذي أطلقه القناصة، وأخرى متفحمة بعد أن تم إحراق عدد من خيام المعتصمين الذين رفضوا إجلائها لأرى وجه شهيد بنصف وجه بعد أن تهتك النصف الأخر تماما ليصرخ أب مكلوم فقد ابنه طالب الأزهر، وهو يدعو على القتلة السيسى، وأعوانه الذين قتلوا ابنه وابن أخيه الذين لم يتعديا بعد العشرين عاماً. فتاة أخرى وجدتها تبكي على أخيها «أُبَىّ» 24 عاماً الذي كان يعمل محاسباً بـ(أبوظبى)، وجاء قبل فض الإعتصام بيوم واحد لينضم إلى المعتصمين؛ لينال الشهادة فور إنضمامه إلىهم، وتلك الأم المكلومة التي وجدتها تبكى ابنها «معاذ» الذي جاء أيضاً من السعودية؛ حيث مقر عمله قبل أيام من فض الإعتصام بالقوة؛ لينال الشهادة بعدحضوره بأيام. مزيد من الثلاجات لا تكفي! علمت أن مشرحة زينهم استعانت بمبردتين تسعان لأكثر من ألف جثة؛ لحفظ الجثث المجهولة والمتفحمة في حريق مسجد رابعة العدوية من التعفن، بعد تكدس الجثث داخل صالة التشريح وطرقة المشرحة، وقال لي أحد مسؤولي المشرحة: إنه تمت الاستعانة بهذه المبردات بعد تزايد أعداد الجثث داخل المشرحة، وامتلاء الشوارع المحيطة واستمرار توافدجثث القتلي، بعد مجزرة رمسيس، ومجزرة الهرم وما حولها من ميادين مصر والتي بلغت قرابة 200جثة (الحكومة قالت: إنها173جثة). أيضاً تم وضع سيارتين في الشارع بهما مبردات واستدعاء أطباء شرعيين من كل أنحاء مصر وتكليف غيرهم أيضاً للساعدة في تخفيف التكدس أمام المشرحة، وإتاحة الفرصة لأهاليالضحايا مجهولي الهوية من التعرف على ذويهم، دون إعاقة العمل داخل المشرحة وعدم تعطيل الأطباء، ومنعاً للاشتباكات التى تحدث بين الحين والآخر بسبب بقاء الأهالي قرابة ثلاثة أيام أمام المشرحة بعضهم لايعرف كيف يحصل على جثته؛ ليدفنها بسبب التعسف في التصاريح وكتابته أنه منتحر، والبعض الأخر لأنه لايعرف أصلاً أين جثة الشهيدالخاصة به أو لايمكنه تمييزها بسبب تفحم قرابة 100جثة في المكان. وفي الشارع المؤدي لباب المشرحة يقف المئات من أهاليالضحايا الذين سقطوا خلال اشتباكات رابعة، وميدان رمسيس يحملون جثث ذويهم ويضعون قوالب من الثلج على الجثث؛ لمنع التعفن بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وكل ساعة تمر تجد عشرات الجثث مازالت تتوافد على المشرحة، ما أدى إلى إعاقة سيارات الإسعاف عن الدخول أصلاً إلى المشرحة لجلب مزيد من الجثث، تشعر أنك في ميدان حرب لامستشفي طب شرعي، أو مشرحة، ثم تذهب لتطالع آخر الأخبار فترى وزير خارجية الانقلاب والمتحدث باسم رئاسة الانقلاب يكذبون ويكذبون ويقولون: إنه لولا حنية الجيش والشرطة على المتظاهرين، وتحليهم بضبط النفس لسقط المزيد من القتلى - أكثر من هذا يا ظلمة - أكثر من ثلاثة آلاف شهيد في رابعة والنهضة والمحافظات، وقرابة خمسة آلاف مصري قتلهم الجيش والشرطة المصرية في 45 يوماً منهم من لم يعلنوا رسمياً حتي الآن إلا أقل من ألف، ويقولون ضبطنا أنفسنا كي لا نقتل المزيد! الأهالي استخدموا البخور ومعطرات للجو لإزالة الروائح التي انتشرت في المنطقة، نتيجة انتظار الجثث لساعات طويلة قبل بداية عملية التشريح، كما تحولت المنطقة إلى بركة مياه مختلطة بدماء الجثث الملقاة في الشارع. أهالي شهداء رمسيس يروون قصصاً مرعبة عن القتل المتعمد لأبنائهم عبر قناصة ومجرمين فالقتل في الرأس مباشرة أو القلب ما يعني نية القتل العمد، البعض قتل؛ لأنه كان يمر في المنطقة أو يقف لمشاهدة ما يجري في شرفة منزله فوصله رصاص القناصة والبلطجية خاصة لو كان يحاول توثيق ما يجري بكاميرا أو فيديو فهذا ممنوع! المئات من القصص التى تدمى القلوب، وتخلق الحسرة في النفوس والأقسى من ذلك كله أنه حتى الآن لم يتم إكرام هؤلاء الشهداء بدفنهم وتسليمهم لذويهم، والعجيب أن الضمائر ماتت، وأعلام العهر والقذارة لا يزال يبرر القتل والجرائم؛ تارة بدعوى أن الاخوان يتاجرون بدماء أبنائهم وتارة بزعم أنهم مؤجرون في الاعتصامات! فالبعض يتحدث للأسف بجهل عن كون القتلي في رابعة أغلبهم من المتسولين في أنحاء مدينة نصر تم تأجيرهم في الاعتصام بـ 200جنيه في الىوم وثلاث وجبات، بخلاف الحديث عن تأجير الأطفال من الملاجىء، والتشكيك الذي طال الشهيدة أسماء ابنة د. محمد البلتاجي الذي أسرعت بعض الشبكات والمواقع والفيس بوك توجيه الاتهام إلى أبيها بالمتاجرة بدم ابنته، وأنها مازالت حية، بل وإنها دخلت في مع إحدى القنوات المشبوهة في مداخلة هاتفية لتؤكد أنها حية وتتواجد بالإسكندرية وتطلب من أبيها ألا يتاجر بدمها رغم أنها دفنت خلاص! والكذب والتضليل والكيل بمكيالىن وسياسة الخرس، بل الشماتة أصبحت منهج دعاة حقوق الإنسان والذين كثيراً ما تشدقوا بالحرية وكرامة الإنسان والحيوان، وكأن كل هؤلاء الشهداء فراخاً ذبحت وقتلت بدم بارد أو طيوراً أسقطتها بنادق جنود السيسي وإبراهيم وهم يصطادون! كل من لبّى دعوة «السيسى» ونزل يوم 26 يوليو الماضي لإعطائه تفويضاًً لقتل إخواننا وآبائنا وأبنائنا المصريين الذين لقوا وجه ربهم، يتحمل المسؤولية عن قتلهم، وهم يدافعون عن كلمة الحق، أما أمنية أهالى الشهداء فهي واحدة؛ أن يروا جثث هؤلاء الانقلابيين معلقة في المشانق على أبواب مسجد رابعة العدوية ومسجد الفتح برمسيس وأمام الحرس الجمهوري، وكل مكان سقط فيه شهداء وارتوت أرضه بدماء المصريين الشرفاء كي ترتاح أرواحهم الطاهرة.